سورة الأحقاف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {قل ما كنتُ بِدعاً} أي: بديعاً، كخف وخفيف، ونصب ونصيب، فالبدع والبديع من الأشياء: ما لم يتقدم مثله، أي: لستُ بأول مرسل فتُنكر نبوتي، بل تقدمت الرسل قبلي، واقترِحتْ عليهم المعجزات، فلم يقدروا على الإتيان بشيء إلا ما أظهره الله على أيديهم، في الوقت الذي يُريد. قيل: كانت قريش تقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات تظهر لهم، ويسألونه عن الغيبيات، عناداً ومكابرة، فأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: ما كنت بِدعاً من الرسل، قادراً ما لم يقدروا عليه، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب، فإنَّ مَن قبلي من الرسل عليم السلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات، ولا يُخبرون إلا بما أوحي إليهم، {وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} أي: لا أدري ما يُصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يبرز لنا من قضاياه. وعن الحسن: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة.
وقال: إنه منسوخ بقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قال شيخ شيوخنا الفاسي: وهو بعيد، ولا يصح النسخ؛ لأنه لا يكون في الأخبار، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن في الجنة، والكافر في النار، من أول ما بعثه الله، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة، فقال: لا أدري، وأما مَن وافى على الإيمان، فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة، وإلا فكان للكفار أن يقولوا: وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة؟ قاله ابن عطية. اهـ. وقال أبو السعود: والأوفق بمان ذكر من سبب النزول: أن {ما} عبارة عما عِلْمُه ليس من وظائف النبوة، من الحوادث الواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإنَّ العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين. هذا، وقد رُوي عن الكلبي:أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له صلى الله عليه وسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين: متى نكون على هذا؟ فقال: {ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم} أأترَكُ بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر، قد رفعتْ إليّ ورأيتها. اهـ. وسأتي في الإشارة تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى.
ثم قال: {إِن أتبعُ إِلا ما يُوحَى إِليَّ} أي: ما أفعل إلا الاتباع، على معنى: قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتبادر، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من إذاية المشركين، والأول هو الأوفق بقوله: {وما أنا إِلا نذير مبين} أُنذركم عقاب الله تعالى حسبنا يُوحى إليّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة.
{قل أرأيتم إِن كان} ما يوحى إليّ من القرآن {مِن عند الله} لا بسحر ولا مفترى كما تزعمون {و} قد {كفرتم به وشَهِدَ شاهدٌ} عظيم {من بني إِسرائيل} الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي، بما أُوتوا من التوراة. والشاهد: عبد الله بن سلام، عند الجمهور، ولهذا قيل: إن الآية مدنية، لأن إسلام عبد الله بن سلام بالمدينة. قلت: لَمّا عَلِمَ اللّهُ ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة، فالآية مكية.
وقوله: {على مثله} أي: مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، المطابقة لما في القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك، فإنَّ ما فيه عين ما فيها في الحقيقة، كما يُعرب عنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] والمثلية باعتبار كونه من عند الله. وقيل: المثل: صلة.
{فآمَنَ} ذلك الشاهد لَمّا تحقق برسالته. رُوي أنه لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وقال له: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بالُ الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أول أشراط الساعة؛ فنارٌ تحشُرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب، وأول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادة كبد الحوت، وأما الولد؛ فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزعه، وإن سبق ماءُ المرأة نزعته» فقال: أشهد أنك رسول الله حقاًُ، فأسلم.
{واستكبرتم} عن الإيمان به، وجواب الشرط محذوف، والمعنى: أخبروني إن كان من عند الله، وشهد بذلك أعلم بني إسرائيل، فآمن به من غير تلعثم، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة، فمَن أضل منكم؟ بدليل قوله تعالى: {أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ...} [فصلت: 52] الآية أو: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله: {إِن الله لا يهدي القوم الظالمين}، والتقديران صحيحان، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه- تعالى- لهدايتهم إنما هو لظلمهم. وقال الواحدي: معنى: {إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين}: إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم، ويحرمهم الهداية. اهـ.
الإشارة: قل ما كنت بِدعاً من الرسل، وكذلك الوليّ يقول: ما كنت بِدعاً من الأولياء، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة، لاتساع معرفتهم وعلمهم بالله؛ لأنهم لا يقفون مع عد ولا وعيد؛ لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله، وقد يكون الوعد معلقاً بشروط أخفاها الله عنهم، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم، وفي الحديث: «لا تأمن مكري وإن أَمَّنتك»، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وعلى ذلك الششتري في نونيته، حيث قال:
وأي وِصَالٍ في القَضِيَّة يُدَّعى *** وأكلُ مَن الْخَلْق لم يدَّع الأمْنا
هذا، وقد قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَللأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} [الضحى: 4، 5] وقال: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد، لغيب المشيئة، فقال في حديث ابن مظعون: والله لا أدري- وأنا رسول- ما يُفعل بي وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة، فتبيَّن أنَّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام، وإن كان الغالب والطرف الراجح أن من وُعد بخيرٍ أو بُشِّر به يُنْجَز له بفضل الله وكرمه، والكريم إذا وعد لا يُخلف، لكن المشيئة وقهرية الربوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: وفي الآية دليل على فساد قول أهل البدع، حيث لم يُجوزوا إيلام البريء عقلاً؛ لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول: أعْلَمُ قطعاً أني معصومٌ، فلا محالةَ يغفر لي، ولكنه قال هذا ليُعلم أن الأمر أمرُه، والحكمَ حكمُه، له أن يفعلَ بعباده ما يريد. اهـ.
وقال الورتجبي: لا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي، وهناك لججات تغيب في ذرة منها جميعُ الأرواح العاشقة، والأسرار الوالهة، والقلوب الحائرة. اهـ. والحاصل: أنه لا يدري نهاية مناله من الله، لنفي الغاية في حقه تعالى والنهاية، وهو صريح استبعاد الششتري دعوى الوصال، والله أعلم. اهـ. من الحاشية.


يقوله الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا} أي: لأجلهم، وهو كلام كفار مكة، قالوا: إنَّ عامة مَن يتبع محمد السُّقاط، يعنون الفقراء، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم، قالوا: {لو كان} ما جاء به محمد من القرآن والدين {خيراً ما سبقونا إِليه} فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأرذال، فإنَّ عامتهم فقراء وموالٍ ورُعاة، قالوه زعماً منهم أن الرئاسة الدينية مما تُنال بأسباب دنيوية، كما قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية، مبناها: الإعارض عن زخارف الدنيا، والإقبال على الله بالكلية، وأنّ مَن فاز بها حازها بحذافيرها، ومَن حرمها فما له عند الله من خلاق. والحاصل: أن هذه المقالة سببها الرضا عن النفس، وهو صل كل معصية وغفلة. ثم قال تعالى: {وإِذ لم يهتدوا به} العامل في الظرف محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، أي: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم، وقالوا ما قالوا: {فسيقولون} غير مكتفين بنفي خيريته: {هذا إِفك قديم} أي: كذب متقادم، كقوله: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وقال القشيري: إنه تكذيب للرسل فيما بُيّن لهم، فما أُنزل عليهم من بعثة محمد رسولاً، يعني: فيكون كقوله تعالى: {إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ} [القصص: 48، الزخرف: 30]، وقيل لابن عباس: أين نجد في القرآن مَن كره شيئاً عاداه، فقرأ هذه الآية: {وإذ لم يهتدوا..} إلخ.
{ومِن قبله} أي: مِن قبل القرآن {كتابُ موسى} أي: التوراة، فكتاب: مبتدأ، و {من قبله}: خبر، والاستقرار هو العامل في قوله: {إِماماً ورحمةً} على أنهما حالان من الكتاب، أي: قدوة يُؤْتمُ به في دين الله وشرائعه، ورحمة من الله تعالى لمَن آمن به. {وهذا} القرآن، الذي يقولون في حقه ما يقولون، هو {كتاب} عظيم الشأن {مُصدِّق} لكتاب موسى، الذي هو أماماً ورحمة، أو: لِما بين يديه من جميع الكتب الإلهية. قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها: أنه لما تضمن قوله: {فسيقولون هذا إفك قديم} تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات، عقبه ببيان أنه إما صدق في نفسه، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة. اهـ.
حال كون الكتاب {لساناً عربياً ليُنذر الذين ظلموا} متعلق بمُصَدِّق، أو بأنزل، محذوفاً، وفيه ضمير الكتاب، أو: الله تعالى، أو: الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده: قراءة الخطاب، {وبُشرى للمحسنين} في حيز النصب، عطف على محل {ليُنذر}؛ لأنه مفعول له، أي: للإنذار والبشرى، أو: وهو بشرى للمحسنين، للمؤمنين المطيعين.
الإشارة: قال في الحِكَم: (أصل كل معصية وغفلة وشهوة: الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة: عدم الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأيّ علِم لعالم يرضى عن نفسه؟ وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟)، وعلامة الرضا عن النفس: تغطية مساوئها، وإظهار محاسنها، كما قال الشاعر:
وَعَيْنُ الرِضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ *** ولَكِن عَين السخطِ تُبدِي المساوي
وإذا نقصها له أحدٌ انتقم منه وغضب، وإذا مدحها له فَرِحَ واستبشر، ويرى أنه أهل لكل خيرٍ، وأولى من غيره، فيقول إذا رأى مَن حاز خيراً أو رئاسة، كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وعلامة عدم الرضا عنها: إظهار مساوئها، واتهامها في كل حال.
وقال أبو حفص الحداد: مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه، كان مغروراً، ومَن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؟! والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول: {وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى} [يوسف: 35]. اهـ.
فإذا لم يرضَ عن نفسه، وهذّبها، استقامت أحواله، وكان من المحسنين.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين قالوا ربُّنا اللّهُ ثم استقاموا} أي: جمعوا بين التوحيد، الذي هو خاصة العلم، والاستقامة في الظاهر، التي هي منتهى العمل، {فلا خوفٌ عليهم} من لحوق مكروه، {ولا هم يحزنون} على فوات مرغوب، و {ثم} للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقف الاعتداد به على التوحيد. ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفي الحزن عنهم، {أولئك} الموصوف بما ذكر من الاسمين الجليلين، {أصحابُ الجنة خالدينَ فيها} حال من أصحاب الجنة، والعامل: معنى الإشارة، {جزاء بما كانوا يعملون} من الأعمال الصالحة، و {جزاء} مصدر لمحذوف، أي: جوّزوا جزاء، أو بمعنى ما تقدم، فإن قوله: {أولئك أصحاب الجنة} في معنى: جزيناهم.
الإشارة: مضى تفسير الاستقامة، وأنَّ مَن درج على الإيمان والاستقامة حظي بكل كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة، وقيل: السين في الاستقامة سين الطلب، وأنَّ المستقيم يتوسل إلى الله تعالى في أن يقيمه على الحق، ويثبته على الصدق. اهـ.
قال الورتجبي: ما قال القوم هذا القول- أي: {ربنا الله}- حتى شاهدوه بقلوبهم، وعقولهم، وأرواحهم، وأسرارهم، مشاهدة الحق سبحانه، فإذا رأوه يقولون: هذا الهلال، وصاحوا، وضحكوا، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم، فلما رأوه أبحوه وعرفوه، وشربوا من بحار وصالة، حتى تمكنوا، فاستقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد، واستقاموا في مراد الله منهم، وأداء حقوق عبوديته، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب، ولا حزن العتاب، قال الله تعالى: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5